دعوى الجاهلية العصبية القبلية

دعوى الجاهلية العصبية القبلية
الخطبة الأولى:
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخَيْرَ الهدي هدي محمد r، وشرَ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: مرض اجتماعي خبيث، ونبتة شيطانية مريدة، ونعرة إبليسية حقودة، هي دعوى جاهلية، حاربها الإسلام في مهدها، فقيظ سلطانها، وأضعف في نفوس عُتَاتِهَا بُنْيَانَها، فألحق عَالِيَها بسافِلها، وجاء على قوتها فأوهنها، وعلى صلابتها فدكدكها، وبددها، كل ذلك ليمحو آثرها، ويثبت الحق مكانها.
كانت تلك الدعوةُ المقيتةُ قبل الإسلام ذات منارة عاجية عالية، بناها شيطان مريد، ورعتها نفوس مريضة، قامت على سوقها وببنيانها، لكنه سوق رديء وبنيان هش، إنها العصبية القبلية، والدعوى المنتنة الجاهلية.
عباد الله: إن المعبود المطاع في الجاهلية، هي القبلية التي كانت تحرك العرب بأجنحتها، وتسيطر عليهم بروحها، فكانوا يقولون ما تقول القبيلة، ويفعلون ما ترضاه، حتى يقول قائلهم الجاهلي:
وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ *** غويتُ وإنْ ترْشُد غُزِيَّةُ أَرْشُدُ
في صدر الإسلام كان لروح القبيلة، ومجد الآباء والأجداد تأثيراً عجيباً مما جَعَلَ قَبِيْلَةَ قُرِيْشٍ، وقبائِلَ العرب تقف متجبرة متغطرسة أمام الحق الأبلج.
فما رد كثيرٌ من كفار قريش وعُتاتِها عن الإسلام وهم يعلمون أنه الحق إلا العصبية القبلية المقيتة، فكانت من أسباب بقائهم على الكفر، واسْتِحْقَاقِهِمْ بعدَ ذلكَ نار جهنم.
(ذكر الإمام الزهري - رحمه الله تعالى -: أن أبا جهلٍ وَجـمَاعةٍ معهُ وفيهم الأخنسُ بن شُرَيْق، وأبو سفيان، استمعوا لقراءة الرسول r في الليل، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا (أو تحاذينا) على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منَّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه). السيرة النبوية لابن هشام (1/315).
فكان أعظمَ صادٍ لهم عن الإسلام هو العصبية، وحب الخيلاء والفخر.
عباد الله: جاء الإسلام بجماله، وحسنه وبهائه، وقسطاسه المستقيم، جاء على الأخلاق الحسنة كإغاثة الملهوف، ونصرة الضعيف، وإكرام الضيف فثبتها وقَوَّمَها وهذَّبها.
وجاء على الأخلاق السيئة والمعاني الرديئة فنهى عنها، وعاقب عليها، كل ذلك صيانةً لهذا الدين العظيم، ومحافظةً على النظام الاجتماعي الرصين في هذا الدين القويم.
قال r:« لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ » أخرجه أبو داود(5121) من حديث جبير بن مطعم t.
عباد الله: العصبية القبلية، والعنصرية، والطبقية، والإقليمية، والنعرة الجاهلية، والفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، كل هذه جاء الإسلامُ ليُحاربها، ويدعو إلى ضدها، بل وصفها بالخبث والنتانة.
] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ [الحجرات:13].
خَطَبَ النبيُ r النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ - وهي الكبر والفخر والخيلاء -، وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ» أخرجه أحمد(2/523)، والترمذي(2370) وغيرهما.
عباد الله: هذا المريض الخبيث، والعادة المنتنة جاء الإسلام فمحها من أصلها، وعالج تلك النفوس منها، ثم أحلَّ محلها معالي الأمور، ومكارم الأخلاق.
قال جابرُ t: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ r وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا - أي ضرب دبره بيده -، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ؛ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ r فَقَالَ:« مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟!» ثُمَّ قَالَ:«مَا شَأْنُهُمْ؟» فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ r:«دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ»، وفي رواية:«دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ » أخرجه البخاري(3330،4622)، ومسلم(8524)؛ فقد وصفها النبي r بأنها خبيثة منتنة.
إخوة الإسلام: كم أفسدت هذه العصبية بين الناس، وأشعلت العداوةَ والبغضاءَ في قلوبهم حتى تجِدَ الرَّجُلَ يَقْدُم على الرجل فيستحلُ دَمَهُ لأنه من قبيلة كذا، أو من قبيلة كذا، لثأر، أو مشاجرة بينهما.
خطب النبي r فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ r؛ ثُمَّ قَالَ:«أُيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ؛ ثُمَّ قَالَ:« أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ؛ ثُمَّ قَالَ:«أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ؛ قَالَ:« فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ r؛ قَالَ:« لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ». أخرجه أحمد(5/411) وأصله في الصحيحين.
عباد الله: لقد ربى النبي r أصحابَه على النقاء والصفاء وسلامة الصدر وحب المسلمين، وحذرهم من الخيلاء والكبر والتطاول على عباد الله، اختلف أبو ذر الغفاري – وهو سيد من سادات غفار - مع بلال الحبشي - رضي الله عنهما - فسب أبو ذر بلالاً وشتمه، ثم عيره بأمه فقال له: يا ابن السوداء، فبلغ ذلك النبي r فغضب غضباً شديداً ثم قال:« يَا أَبَا ذَرٍّ: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ » أخرجه البخاري(30)، ومسلم(1661).
فقوله r لأبي ذر:«إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء عن النبي r أنه قال:« أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ » أخرجه مسلم(934) من حديث أبي مالك الأشعري t.
وقال r:« اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ » أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة t(121).
إخوة العقيدة: العصبية القبلية: أذكى نارُها أناسٌ لا خلاق لهم، فلا دين يحملون، ولا عقل يكنون، بادروا إليها فحملوا لواءَها، وتولوا كبرها، وما زال بهم شيطانهم حتى زين لهم أمرَهُم فأنشئوا القنوات الفضائية الداعية للعصبية، ثم ألحقوها بمواقع عنكبوتية، ثم سيروها في الصحف السيارة، كل ذلك من السفه المقيت، والدعاوى الجاهلية التي حاربها الإسلام.
وما زال الحُمْقُ بهم حتى أخذوا يتفاخرون بالدواب والأنعام، ويعقدون المسابقات الشعرية والنثرية، مسابقةً تلو مسابقة، فأنفقوا فيها الأوقات والأموال الطائلة، فأخرجوا كوامن السفه ودعوى الجاهلية في نفوس الناس، حتى أنك تراهم يتحامون ويتعصبون لبعضهم، وينالون من كل قبيلة هي ضدهم؛ ومن مظاهر تلك العصبية الجوفاء مناصرة الشعراء.
بل وللأسف أصبحنا نرى تلك العصبيات على بعض السيارات في حروف ورموز، وهمز ولمز، والأعجب من ذلك ما نسمعه في بعض مدارسنا وعلى أصغر المستويات.
أيها الناس: إننا نرى العصبية في نظرة البعض لغير أبناء البلد، الذين جاءت بهم الحاجةُ للرزق إلى بلادنا، ناهيك أن تتجاوز النظرة إلى أقوال وفعال ومظالم تُحزن القلب.
يا بني آدم: إن من العصبات ما يحصل في الزيجات من قصائد في مدح قبائل وذم أخرى، ومن العصبية - أيضاً -: التفاخر في تعداد الآباء والأجداد على وجه المفاخرة والمكابرة. فمجالس الدهماء تروجها، وأشعار الجهلاء ترددها، كلما خبت نارها جاء من يُسَعِّرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها.
ومن العصبية: مدح الإنسان قبيلته ليلاً ونهاراً؛ ويزداد العجب عجباً، عندما تَصْدُرُ مثل ُ تلك العصبيات من قومٍ ادعوا المعرفة والعلم، وتفاخَرُوا بحمل الشهادات.
عباد الله: هنا لفتة وهي: أنه ليس من العصبية أن يحبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، فقد قال واثلة بن الأسقع t سَأَلْتُ النَّبِيَ r فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ:« لاَ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ » أخرجه احمد(4/107)، وابن ماجه(3949).
إن الأب الحقيقي لكل مسلم هو الإسلام؛ كان بعضهم إذا سئل عن نسبه قال:
أبـي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا فخـروا ببكر أو تميــم
كـلا الحيين ينصـر مدعيـه *** لِيُلْحِقَهُ بِـذِي الحسب الصميم
ومـا حَسَبٌ ولو كَرُمَتْ عُرُوْقٌ *** ولكــن التقي هو الكـريم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:] وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ [الحج:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي لغفور رحيم.

» العصبية القبلية
» معاني الجاهلية
» التفاخر بالأنساب.. والعصبية الجاهلية